إيلان بابيه وتفكيك الصهيونية- مستقبل فلسطين واليهود بعد "الطوفان"

المؤلف: أحمد الشيخ10.27.2025
إيلان بابيه وتفكيك الصهيونية- مستقبل فلسطين واليهود بعد "الطوفان"

شارك المؤرّخ البارز والكاتب المرموق، إيلان بابيه، ذو الفكر الإسرائيلي اليهودي المناهض للصهيونية والكيان الاستعماري القائم على أرض فلسطين، في فعاليات منتدى الجزيرة الخامس عشر. على الرغم من أنّ آراءه جلية وواضحة، وأنّ شهرته تسبقه في كل محفل يتناول بالشرح والتفصيل المشروع الصهيوني، وما يترتب عليه من مخاطر جمة على المستويين الإقليمي والعالمي، ترقب الجميع بشغف ما سيطرحه بابيه في هذا المنتدى، الذي انعقد تحت عنوان "طوفان الأقصى والتحولات في الشرق الأوسط".

إيلان بابيه، المفكر المتقد، يعارض بشدة الصهيونية، ويدعو بحماس في كتاباته ومن خلال كافة المنصات المتاحة إلى تأسيس دولة موحدة في فلسطين التاريخية، على أسس المساواة والعدل، تضم في كنفها جميع القوميات والأديان والأصول المتنوعة. يعتبر بابيه مؤرخًا نزيهًا ضمن مجموعة المؤرخين الجدد في إسرائيل، الذين سعوا إلى إعادة كتابة التاريخ بإنصاف وموضوعية. يذكر أنّ والديه، وهما من اليهود الألمان، هاجرا إلى فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي.

إنه أيضًا يرفض بشدة الرواية الصهيونية الزائفة والمتداولة في مجتمع وُلد وترعرع فيه عام 1954، وتلقى فيه تعليمه، وخدم في جيشه، وشغل مناصب أكاديمية عليا في جامعاته المرموقة. ومع ذلك، انقلب عليه مجتمعه وهدده ونبذه، لأنه تحلى بالشجاعة الأخلاقية والأدبية ليؤكد أن إسرائيل تأسست على أنقاض فلسطين وفقًا لخطة مُحكمة ومُعَدَّة مسبقًا للتطهير العرقي، والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

في الجلسة الافتتاحية للمنتدى، وجدتني أجلس جوار بابيه، فصافحته وأثنيت على فكره النير ومواقفه الشجاعة والثابتة. كانت هذه هي المرة الأولى التي ألتقي به شخصيًا، على الرغم من أنني قرأت أحد كتبه أو اثنين، على حد تعبير ذاكرتي، وأخص بالذكر كتابه الشهير "التطهير العرقي في فلسطين"، الذي أحدث صدى واسعًا.

في الجلسة الثانية، تناول بابيه في مداخلته الرئيسية الوضع الراهن في أعقاب "طوفان الأقصى"، وخلص إلى استنتاج مفاده أن مرحلة تفكيك المشروع الصهيوني العنصري، وصولًا إلى إقامة الدولة الواحدة المنشودة، ستبدأ عندما يشرع العالم في فرض عقوبات فعالة على إسرائيل، بغض النظر عن المدة التي قد يستغرقها ذلك.

ثم أضاف، وهو يتحدث عن المتطلبات اللازمة للحفاظ على الزخم العالمي الحالي الداعم للحق الفلسطيني، قائلًا: "نحن في انتظار أن نسمع من الفلسطينيين تصورات واضحة حول مستقبل اليهود"، مشيرًا بذلك إلى المرحلة التي تلي تفكيك المشروع الصهيوني وقيام الدولة الواحدة البديلة.

وأردف قائلًا: "لا ينبغي أن ننتظر حتى يتم تفكيك المشروع الصهيوني الإجرامي وكيفية تحقيق ذلك، كما نبحث الآن، بل يجب علينا أن نشرع بالتفكير في المستقبل الراهن، وطرح البدائل الممكنة والإجابة عن التساؤلات المختلفة والمتعددة، وألا ننتظر حتى ينهار ذلك المشروع انهيارًا تامًا؛ لأن تفكيك المشاريع الاستعمارية دون وجود بدائل مدروسة ومُعَدَّة مسبقًا، قد أدى في حالات سابقة إلى الفوضى وعدم الاستقرار."

واستطرد قائلًا: "فلسطين كانت على الدوام جزءًا لا يتجزأ من إقليم بلاد الشام، ويجب أن تعود كذلك في مرحلة ما بعد تفكيك المشروع الصهيوني. وعليه، لا بد من إعادة النظر بشكل جدي في الهياكل السياسية التي فرضت على المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى، والتفكير مليًا في بناء هياكل سياسية ذات صلة وثيقة بمنطقة المشرق. وحين يتحقق ذلك، سيصبح اليهود أقلية في المنطقة، وليسوا دولة قوية مهيمنة، كما هو الحال اليوم، وبإمكانهم حينها الوجود هنا والمساهمة الفعالة في حل مشاكل المنطقة المعقدة."

على الرغم من أن تساؤل بابيه يحمل في طياته قلقًا واضحًا وحساسية لدى جميع أطراف الصراع العربي الإسرائيلي، اسمحوا لي بالمجازفة بطرحه، في ظل مقاومة غزة الباسلة التي لم يشهد الناس مثيلًا لها من قبل، على الرغم من الدمار الهائل والقتل المروع والخذلان المتزايد. أعتقد جازمًا أن الأولوية الآن هي دعم المقاومة الفلسطينية الباسلة، ووقف جرائم الإبادة الجماعية الوحشية، ومخططات التطهير العرقي الممنهجة. ولكن، دعونا نناقش تساؤل بابيه بعمق، حتى وإن لم يلوح في الأفق القريب ما يشير إلى أن تفكيك المشروع الصهيوني، على غرار ما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وقيام الدولة الواحدة، قد بات وشيكًا.

وقبل أن نشرع في النقاش مع بابيه، يجب أن نوضح بجلاء أن عودة اللاجئين الفلسطينيين بأجيالهم المتعاقبة هو شرط أساسي وحتمي لقيام تلك الدولة الموحدة العادلة، وبدونه لن يكون هناك تعايش حقيقي ولا سلام دائم. وبالتالي، فإن من يجب أن يطرح الأسئلة هم نحن الفلسطينيون الذين قام المشروع الصهيوني على أرضهم التاريخية وشردهم في أصقاع الأرض، وما زلنا منذ قرن من الزمان ويزيد نقاوم ببسالة وندفع من دمائنا الطاهرة، التي لولاها لما تحدث أحد عن نهاية لهذا المشروع الظالم، سواء كانت قريبة أم بعيدة.

فإذا كنا سنعيش في دولة واحدة متساوية الحقوق والواجبات، بعد تفكيك المشروع الصهيوني، فهل سيتخلى "اليهود الإسرائيليون"، إن جاز التعبير، الذين يعيشون في الكيان الصهيوني، ويعتنقون الصهيونية فكرًا وسياسة، هل سيتخلون عن هذه الأيديولوجية، وهل سيقبلون العيش بحقوق متساوية مع جميع الفلسطينيين الموجودين اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر، ومع اللاجئين العائدين من جميع أماكن الشتات بأجيالهم المتعاقبة؟ أم أنهم سيصرون على علاقة بين قوميتين أو شعبين تُفَصَّلُ الحقوق لكل منهما على معايير واعتبارات مختلفة وغير عادلة؟

قبل قيام المشروع الصهيوني، وقبل تدفق المهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم بتدبير من بريطانيا الاستعمارية، كانت فلسطين وطنًا يعيش فيه العرب المسلمون والمسيحيون واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين أو العرق. وحتى قادة المشروع الأُوَل، مثل غولدا مائير وشمعون بيريز، حملوا الجنسية الفلسطينية قبل قيام كيانهم. وكان هذا هو حال اليهود في جميع البلدان العربية، بما في ذلك إقليم بلاد الشام الذي يرى السيد بابيه أن فلسطين بعد تفكك المشروع الصهيوني يجب أن تكون جزءًا منه كما كانت عبر تاريخها الطويل.

وإذا كانت حتميات التاريخ والجغرافيا تفرض هذا المصير المحتوم لفلسطين في جميع الأحوال، فلن يستقيم الحال إذا أصر من يختارون من اليهود البقاء بعد تفكيك المشروع الصهيوني على اعتبار أنفسهم شعبًا له وضعيته وحقوقه الخاصة، يتعايش على الأرض نفسها مع شعب آخر، هم الفلسطينيون، بوضعية وحقوق خاصة ومنقوصة.

لن يستقيم الأمر هكذا إذا أردنا لفلسطين "الدولة الواحدة" أن تعود جزءًا أصيلًا من بلاد الشام. فهل ستتقبل الأجيال اليهودية المتعاقبة من نسل المهاجرين الأشكيناز أن تندمج مع ثقافة الإقليم، وتتعايش كأقلية بسلام ووئام مع حقائق الحياة الاجتماعية والدينية فيه، بعيدًا عن الأفكار والقناعات التي تشرّبتها عبر العقود من الحركة الصهيونية بكل جماعاتها ومواقفها المتطرفة؟

أتفهم تمامًا أن من حق السيد بابيه أن يتساءل بقلق عن مصير اليهود بعد تفكيك المشروع الصهيوني، فهو واحد منهم تبرأ من الصهيونية العنصرية، ويطالب بحق بتفكيك مشروعها الاستعماري، ومثله آخرون كثر أيضًا. وما من شك لدي في أن السيد بابيه، وهو المؤرخ المنصف، يعرف معرفة علمية وحقيقية أن اليهود كانوا منذ آلاف السنين يعيشون بأمان وسلام مع العرب، ويتعايشون بود ومحبة مع مجتمعاتهم قبل الإسلام وبعده، يتاجرون ويزرعون ويبنون حصونهم، ويكتبون الشعر العذب، ويمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية بكل حرية، باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من نسيج الأمة.

وهكذا عاملهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنورة وهو يقيم الدولة الإسلامية، وهكذا عوملوا في الخلافات اللاحقة. بل حين طُرِدوا مع العرب المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة، وجدوا بين مسلمي شمال إفريقيا في المغرب من يحتضنهم ويؤويهم وما زال.

وهكذا، فإننا ننتظر من اليهود الذين سيختارون البقاء في "الدولة الواحدة" أن يجيبوا بوضوح وشفافية عن تلك الأسئلة الهامة، حتى يستطيع الجميع الاطمئنان للمستقبل الزاهر. يجب أن يكون واضحًا للجميع أن تلك الدولة الموحدة العادلة لن تقوم، والمشروع الصهيوني لن يتفكك أبدًا، ما لم يصبح حق العودة المقدس واقعًا ملموسًا قبل كل شيء.

كنت ذات يوم أقوم بتصوير فيلم وثائقي عن القدس الشريف، ومرت الكاميرا بالشطر الغربي من المدينة، تصوّر أحياءها العريقة وبيوتها الجميلة التي بنيت قبل نكبة عام 48 بسنين طويلة. كتب من بنى أحد البيوت الفخمة على ناصيته فوق الباب الحديدي تاريخ 1927، وهو تاريخ البناء بدقة.

البيت يسكنه اليوم أسرة يهودية، وقد رأيت رجلًا مسنًا، هو رب الأسرة على ما يبدو، يصعد السُّلم إلى الطابق العلوي، وتراءى لي من سحنته أنه من اليهود الغربيين الأشكيناز.

تساءلت في نفسي بحيرة، والمصور يلتقط الصور الجميلة: تُرى هل يقبل ذلك المسن يومًا أن يخرج من البيت طواعية، فيعود البيت إلى أصحابه الشرعيين، إن، وحين يتفكك المشروع الصهيوني العنصري بلا حرب مدمرة، وتقوم الدولة الواحدة العادلة التي ينادي بها إيلان بابيه، ولا أرفضها أنا الذي وُلد مع النكبة المؤلمة، وما زال يتجرّع مراراتها في فلسطين وفي المنافي القاسية؟

قد يقول قائل لكل حادث حديث، ولا ينبغي أن نستبق الأحداث، ونضع العربة أمام الحصان قبل أن يتفكك المشروع الصهيوني، ولكن لست أنا الذي وُلد في قرية لا تبعد عن "فلسطين 48" إلا عشرين كيلومترًا أو أقل، ولم يرَها ولم يرَ مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء إلا بعد عام 1967، لست أنا من ينبغي أن يجيب عن السؤال أولًا، بل هو ساكن ذلك البيت والكيان الذي مَلَّكه البيت زورًا وبهتانًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة